تحليل من الأستاذ: عطية العمري
تحليل سيميائي مقترح لنص
" يحيى بن يعمر .. شجاعة في الحق "
للصف العاشر الأساسي في فلسطين / الجزء الثاني
مقدمة :
النص الذي بين أيدينا مقالة تاريخية تصور مقارعة بين الحجَّاج ويحيى بن يعمر ، ليست بالسيف، ولكنها بالحجة على الملأ من الناس ، كان فيها يحيى صاحب الحجة المفحِمة التي جعلت الحجاج يبهت ، وغاية ما قام به أن نفى يحيى إلى خراسان .
والمقالة التاريخية لون من ألوان المقالة الموضوعية ، وتعتمد على جمع الروايات والأخبار والحقائق ، وتمحيصها وتنسيقها وتفسيرها وعرضها . وللكاتب أن يتجه في كتابتها اتجاهًا موضوعيًا صِرفًا تتوارى فيه شخصيته ، وله أن يضفي عليها غلالة إنسانية رقيقة ، فيزينها بالقصص ، ويربط بين حلقات الوقائع بخياله ، حتى تخرج منها سلسلة متصلة مستمرة. ويُعنى كاتبها ـ كما في كل ألوان المقالة الموضوعية ـ بوضع تصميم وخطة لما يكتب . وخطة المقالة هي أسلوبها من حيث التقسيم والترتيب ؛ لتكون قضايا المقالة مترابطة ، بحيث تكون كل قضية نتيجة لما قبلها ، مقدمة لما بعدها ، حتى تنتهي جميعًا إلى الغاية المقصودة ، وهذه الخطة تقوم على المقدمة والعرض والخاتمة .
والنص للدكتور محمد رجب البيومي ، وهو باحث عربي من مصر ، سخيُّ العطاء ، ولد عام 1923 م ، وتلقَّى تعليمه في جامعة الأزهر ، وتدفقت بحوثه ومقالاته عبر الكثير من كبريات المجلات المصرية والعربية . حصل على جوائز كثيرة من مجمع اللغة العربية ، والمجلس الأعلى للفنون والآداب بمصر ، وهو عضو مجمع البحوث الإسلامية ، ورئيس تحرير مجلة الأزهر المصرية . له ديوان شعر مطبوع بعنوان : " صدى الأيام " ، وله مسرحيات شعرية ، وهو ما فتئ يحاور ويحاضر ، ويكتب عما يكابد .
1 ـ سيميائية العنوان :
لو نظرنا إلى عنوان النص لوجدناه يتحدث عن " يحيى بن يعمر " ، وهو أحد التابعين، عاش في زمن الدولة الأموية ، وبالذات أيام حكم الحجَّاج في الكوفة باعتباره أحد ولاة الدولة الأموية . ولكن النص لا يتناول جميع جوانب حياة يحيى بن يعمر ؛ ولذلك فقد حدد العنوان جانبًا واحدًا من حياته ، وهو جانب الشجاعة ، ولكنها ليست شجاعة في ميدان المعركة ، إنما هي شجاعة في ميدان قول الحق أمام سلطان جائر . إذن فقد جاء عنوان النص ليحدد بالضبط مضمون النص وفكرته العامة . وعند دراستنا للنص كاملاً لا نجده يخرج عن هذا النطاق .
ويمكن ملاحظة بعض الأمور على هذا العنوان ، منها :
1 ـ يتحدث العنوان عن الشجاعة في الحق ، وكأنه يطلب منا أن لا نخشى في الله لومة لائم ، وأن نقول كلمة الحق في وجه الطغاة المتجبرين ـ وما أكثرهم في هذا الزمان ـ وأن نكشف أخطاءهم وألاعيبهم ، ولكن بالمنطق والحجة الساطعة المفحِمة إ مما يجعل موقف هؤلاء الطغاة ضعيفًا أمام الشعوب .
2 ـ إن يحيى بن يعمر شخصية حقيقية ، ولكن اختيار هذا الاسم بالذات ليكون عنوانًا وشخصية مركزية في النص ـ بالرغم من أن تاريخنا مليء بقصص الشجاعة في الحق ـ له دلالة خاصة ، فهو يحيى (يحيا) رغم شجاعته في الحق ، فلم يستطع الحجاج قتله ، وبقي حيًا ؛ وفي هذا حث لنا على الشجاعة في قول الحق ، دون خوف من الموت ؛ فإن الموت والحياة بيد الله وحده . ثم إن يحيى هو " ابن يعمر " ، فشجاعته كانت نتيجتها العمار لا الخراب ، فقد كان من نتائجها أن ألغى الحجاج قراره بمعاقبة من يقول إن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما أن اسم " يحيى بن يعمر " من الأسماء التي تأتي علو وزن الفعل المضارع الذي من دلالاته الاستمرار ، فالحياة والإعمار مستمران بفضل شجاعة هذا التابعي العظيم ، وربما لو أنه لم يقم بقول الحق في وجه الحجاج لكان الموت والقتل وخراب البيوت من نصيب الكثيرين ممن يثبت أنهم يحبون الحسن والحسين .
2 ـ سيميائية الصور :
وردت صورتان مصاحبتان للنص ، جاءتا في الصفحتين الثانية والثالثة من النص البالغ طوله أربع صفحات بالإضافة إلى صفحة المقدمة .
أما الصورة الأولى فهي ـ كما يبدو ـ للحجاج يقف مزهوًّا ، رافعًا رأسه في كِبْرٍ وخُيلاء ، لا يمكن لمن يرى هذه الصورة إلا أن يحكم بأنها صورة لإنسانٍ متكبرٍ متغطرس ، فإذا عرفنا أنها صورة لحاكمٍ أو والٍ ، عرفنا أنه لا بد أن يكون ظالمًا متسلطًا على شعبه .
وأما الصورة الثانية فهي نفس الصورة السابقة ، ولكن يقف إلى جانبها إنسان ضعيف الجسم ، رث الثياب ، ينظر إلى الحجاج في خوفٍ شديد ، فقد فتح فمه وعينيه ، ووضع يده على رأسه ، تتخيله حين تنظر إليه أنه يرتعد خوفًا ؛ ولذلك فإننا بالتأكيد نحكم أنه ليس يحيى بن يعمر ، فمن كان شجاعًا في قول الحق ، فإن ملامح الشجاعة تبدو واضحةً عليه ، ولكن ربما هي صورة لواحد من عامة الشعب ؛ ليدلل ذلك على مدى الرعب الذي يصيب من يقف أمام الحجاج ، وبالتالي فإنه يريد أن يصور لنا مدى بطش الحجاج بأفراد شعبه ورعيته ، وهو دليل على مدى شجاعة يحيى بن يعمر ؛ لأنه لم يجهر بالحق في وجه أي حاكم ، وإنما في وجه حاكم ترتعد فرائص من يقف أمامه ، ولكن هذا الحاكم الظالم لم يستطع أن يفعل شيئًا ذا بال في إنسانٍ كشف عيوبه وحججه الباطلة أمام الملأ ، فلا نامت أعين الجبناء .
3 ـ سيميائية البناء الداخلي للشخصيات :
يدور النص حول شخصيتين محوريتين ، هما : يحيى بن يعمر ، والحجاج بن يوسف الثقفي ، وهناك الشخص الذي أراد أن يمدح الحجاج حين أفحمته حجة يحيى بن يعمر . أما شخصية الحسين بن علي فكانت مجرد مادة للمناظرة بين يحيى والحجاج ، فهو قد استشهد منذ مدة . كذلك هناك الشخصية الجماعية متمثلة في الذين أحبوا الحسين ولكنهم لم يستطيعوا التصريح بهذا الحب خوفًا من بطش الحجاج.
أ ـ أما يحيى بن يعمر فكان يتصف بما يلي : كان من المتضلعين من علوم اللغة والشريعة ، ومن أفاضل التابعين ، وشارك مشاركة مثمرة في غرس بذور النحو مع أبي الأسود الدؤلي ، ثم إنه كان كاتبًا لا يتلقى العلم مشافهةً فحسب ، بل يدون ويسجل ، كما أنه المخترع الأول لنقط الحروف بالاشتراك مع ناصر بن عاصم الليثي ، وله آراء كثيرة جدًا في الفقه والتفسير والحديث ، كما اتصف بالشجاعة الأدبية في الحق ، والجرأة الخلقية في مواجهة الطغيان .
ومن مجمل هذه الصفات يمكن إبراز الملاحظات التالية :
1- يجب أن يؤثِّر العلم في سلوك صاحبه ؛ فكل هذه العلوم التي برع فيها يحيى بن يعمر كانت دافعًا له لأن يسعى إلى الإصلاح وتصحيح الخطأ ، ولو كان في ذلك تعريض نفسه للخطر .
2- إن إيراد هذه الصفات العلمية ليحيى بن يعمر ، ثم ذِكر أنه قارع الحجاج بالحجة والبرهان ، وتحداه ، لهو إشارة إلى الواجب الملقى على عاتق العلماء والمثقفين في بيان الحق وعدم السكوت على الباطل . وكما قال الإمام أحمد بن حنبل : " إذا سكت العالِم ، وجَهِلَ الجاهل ، فمتى يتبين الحق ؟! " .
3- في إيراد هذه الصفات إشارة خفية إلى ذم من يمكن أن نسميهم " علماء السلطان " الذين لا يستخدمون علمهم إلا لتبرير أخطاء الحاكم ، أو تزيين ما يفعله الحاكم في عيون الشعب . ولكنهم لو كانوا كيحيى بن يعمر لكان خيرًا لهم في الدنيا والآخرة .
ب ـ أما الحجاج بن يوسف الثقفي ، فقد كان من أكثر الشخصيات التاريخية إثارةً للجدل ؛ فقد اتصف بالعديد من الصفات الإيجابية ، إلى جانب العديد من الصفات السلبية :
ـ فمن صفاته الإيجابية أنه كان رجلَ دولةٍ قويًا ، اتصف بالفصاحة والذكاء والحزم ، وأصلح النقد ، واعتنى بمشاريع الري ، وفتح بلدانًا كثيرة ، حتى أن خيوله وطئت بلاد السند والهند .
ـ ومن صفاته السلبية : القسوةُ ، وأخْذُ مناوئيه بالشبهات ، وإطلاقه العنان للسيف ، وقتله ابن حواري رسول الله عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن جبير وهو من خيرة التابعين ، بالإضافة إلى قتل خلقٍ كثير .
ولكن الكاتب قد ركَّز على مقالته التاريخية هذه على الصفات السلبية ، وخاصة بطشه بمخالفيه ، وخاصةً من يقول إن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذه المخالفة هي محور شجاعة يحيى بن يعمر ،وصدعِهِ بالحق في وجه الظالم .
ومن مجمل ما ذُكر من صفات الحجاح في النص ومقدمته ( بين يدي النص ) يمكن إبراز الملاحظات التالية :
1- إذا اتصف الحاكم أو القائد أو الزعيم بصفات حسنة وأخرى سيئة ، فإن صفاته الحسنة ليست حجة للسكوت على أخطائه ، وخاصةً إذا كان فيها ظلم للرعية .
2- يجب أن يكون الحاكم أو الزعيم رحيمًا برعيته ، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه في القرآن الكريم : " فبما رحمةٍ لنتَ لهم ، ولو كنتَ فظًّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك " .
4 ـ سيميائية البناء الخارجي للشخصيات :
لم يرِدْ في النص أية ملامح خارجية لشخصيات النص ، اللهم إلا شكل الحجاج عند مناظرته ليحيى بن يعمر ، حيث بدا "كالح الوجه ، مقطب الجبين" دليلاً على اهتمامه بهذه المناظرة أيما اهتمام ، وعلى خشيته أن تكون نتيجة المناظرة في غير صالحه ، وهو ما حدث بالفعل .
5 ـ سيميائية الزمان والمكان :
زمان النص هو عصر الدولة الأموية ، وعلى وجه الخصوص زمن الحجاج بن يوسف الثقفي عندما كان واليًا على الكوفة .. وهذا الزمن له دلالاته الخاصة ، فهو زمن القهر والظلم والقسوة وتكميم الأفواه . واختيار الكاتب لهذا الزمان بالذات ربما لأنه يشبه إلى حد كبير الوقت الحاضر الذي نعيشه ، حيث لا يجرؤ أحد ـ إلا من رحم ربي ـ أن يقول للظالم : كفى ظلمًا ، واحكم في رعيتك بما يُرضي الله. فهو دعوة للعلماء والمفكرين الذين يعلمون الحق ولا يجرؤون على التصريح به ، أن يقولوا الحق ويبينوه للناس ، ولا يخشوا في الله لومة لائم ، فلا خوف من سلطان جائر ،فهذا يحيى بن يعمر قد واجه من هو أشد ظلمةً وقسوة من هؤلاء الظلمة الجبابرة ، فنصره الله عليه ولم يتعرض لسوء .
أما المكان فهو مدينة الكوفة ، وما أدراك ما مدينة الكوفة ؟! إنها مدينة العلم والأدب من ناحية ، وهي بمثابة العاصمة الثانية للدولة الأموية ( حيث كانت دمشق عاصمة الدولة الأموية ) . فهذه المدينة فيها ما لذَّ وطاب من مباهج الدنيا وزينتها وزخرفها وخيراتها التي يسعى الكثيرون إلى التمتع بها . إن هذه المدينة تجمع بين متناقضين : طلب العلم والسعي لمرضاة الله ، وكذلك الاستغراق في الملذات والنعيم الدنيوي . وربما كان الكاتب ـ وهو المصري الجنسية ـ يشير إلى مدينة القاهرة ، التي فيها الأزهر الشريف والجامعات المصرية الشهيرة ، وكذلك فيها كل مباهج الحياة وزخارفها ، وفيها الأماكن التي يقصدها الناس من جميع بقاع العالم للتمتع والترفيه . إن اختيار الكاتب لهذا المكان بالذات فيه دعوة للعلماء والمفكرين والمصلحين أن يقتدوا بيحيى بن يعمر ، الذي لم يلتفت إلا لقول الحق وبيانه للناس ، ولم تستطع الدنيا بمباهجها أن تسيطر على قلبه .
6 ـ سيميائية الأحداث :
تبدأ الأحداث بانتشار حب أهل الكوفة للحسين بن علي ، وتضايُق الحجّاج من هذا الحب ، ومقاومته له بكل وسيلة . وهذا حال الكثير من الحكام الظلمة ، فهم يكرهون أن يلتفَّ الشعب حول أحد غيرهم ، حتى لو كان ميتًا ؛ لأنهم يعتبرون ذلك كرهًا للحاكم ، ومناهضة لهم بشكل غير مباشر .
ماذا يفعل الحجّاج لكي يبدد حب أهل الكوفة للحسين بن علي ؟ لقد قام بعدة خطوات هي :
1- عرف سبب هذا الحب ، وهو قرابة الحسين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فحاول أن ينفي أن يكون الحسين من ذرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن انتساب الحسين لفاطمة لا يغير من الأمر شيئًا ، فالأب هو المعتبر في النسب دون الأم على قول من قال :
بنونا بنو أبنائنا ، وبناتُنا بنوهنَّ أبناء الرجال الأباعدِ
2- استخدم أسلوب الخُطَب المطولة . وما أكثر ما يحاول الحكام الظلمة استخدام الخُطَب الرنانة للتغطية على جرائمهم ، وتقديم الكلام المعسول لشعوبهم دون عمل إيجابي نحوهم . وقد تحمل هذه الخُطَب التحذير المبطن للمخالفين ولمن تحدثه نفسه بالخروج عليه .
3- استخدم الشدة بحق من يَثْبُتَ أنه يخالف الحجّاج ، سجنًا وتشريدًا . وهذا ديدن كل الظلمة على مرِّ الزمان ، حيث تمتلئ السجون بالمخالفين ، وتُستَخدَم بحقهم كل ألوان التعذيب والقسوة .
4- بثَّ العيون والجواسيس وكاتبي التقارير ليأتوه بأخبار من يهمس بمخالفة الحجاج . وهذا الأمر متعارف عليه أيضًا في كل زمان ومكان يوجد فيه حكام ظلمة .
إن هذه الخطوات الأربع التي اتخذها الحجّاج تكاد أن تكون هي نفسها التي يقوم بها الحكام الظلمة في الماضي والحاضر وفي كل وقت وحين .
بعد ذلك وصلت للحجاج أنباء بأن يحيى بن يعمر سئل عن الحسين وانتمائه لمحمد صلى الله عليه وسلم فأجاب في المسجد الجامع : إن الحسن والحسين من ذرية رسول الله ، وإن الحجّاج يحكم ولا يفتي ، فإذا أفتى فعن غير عِلم واعتقاد .
مما سبق يتضح ما يلي :
1- إن يحيى بن يعمر قد تحدَّى الحجاج صراحةً .
2- وأنه قد أعلن تحديه له على ملأ من الناس ، بل وفي المسجد الجامع ، حيث اعتبر الحجاج ذلك تحريضًا ضده .
3- إن يحيى بن يعمر قد طعن في علم الحجاج ، وقال بأنه ليس أهلاً للفتوى .
4- إن يحيى بن يعمر هو عالِمٌ جليل ، وهو مسموع الكلمة ، محترَم الرأي ، فإذا أفتى بما يعارض الحجاج فقد تمكَّن من قلوب الناس ، وذهبت دعوى الحجاج في الحسين أباديد .
لقد أدرك الحجاج ـ وهو الداهية ـ أنه لا يستطيع أن يستعمل مع يحيى بن يعمر القسوة والشدة ، وإلا فإن ذلك سيؤلِّب الجماهير عليه ، فماذا يفعل ؟
1- قرر أن يطلب من يحيى بن يعمر أن يأتي بنص واضح من القرآن الكريم يؤيد دعواه .
2- عقد مجلسًا حاشدًا من أعوانه ووجهاء الكوفة حتى يشهدوا عجز يحيى بن يعمر في إثبات صحة دعواه ـ كما قدَّر الحجَّاج ـ .
3- حرص على أن يحضر المجلس شيعة يحيى بن يعمر ومقدِّرو علمه وفضله ؛ لينكشف أمامهم في المعمعة ، فيضيع ما يُنسب إليه من علم وثبات .
4- أرسل من يُحضر يحيى ليتجرع كأس الهزيمة على انكسار .
إن كل هذه الأمور تدل على عدة أمور من بينها :
1- إن الحجاج كان يحسِب ليحيى بن يعمر أكبر الحسابات . وهكذا فإن الحكام الظلمة يحسبون حسابًا للعلماء العاملين ، فلا يجب أن يخشى العلماء بطش الحكام .
2- إن الحجاج لم يجرؤ على استخدام الشدة بحق يحيى بن يعمر ، فليس أمامه إلا محاولة التغلب عليه وقهره بالحجة المفحمة ـ بحسب رأيه ـ .
تبدأ المناظرة ؛ فيسأل الحجاج يحيى بن يعمر عن صلة الحسين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيرد يحيى في كبرياء : الحسين والحسن من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنْ غضِبَ الحجّاج . فيتنمَّر الحجاج متحفزًا ويصيح : ألَدَيكَ دليلٌ من كتاب الله ؟ فيرد يحيى في ثقة بالغة : معي الدليل من القرآن ، فيستغرب الحجاج ويتهكم ، ويؤكد أنه قرأ القرآن مئات المرات فما وجد فيه أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله . ولكن يحيى بن يعمر يقرأ على الحاضرين الآيات ( 83 ـ 85 ) من سورة الأنعام، وفيها إثبات أن عيسى بن مريم من ذرية إبراهيم ، وهنا يلتفت يحيى بن يعمر إلى الجمهور قائلاً : أيكون عيسى بن مريم من ذرية إبراهيم بنص القرآن ، ولا يكون الحسين من ذرية رسول الله ، وبينهما من القرابة الدانية أكثر مما بين عيسى وإبراهيم ؟
مما سبق يمكن استنتاج ما يلي :
1- كان يحيى بن يعمر يردُّ على الحجاج في كبرياء ، وفي ثقة بالغة ، فلم يضعف أو يرتجف أمام الحجاج . وهذا درس للعلماء في أن لا يخشوا إلا الله ، مصداقًا لقوله تعالى : " الذين يبلِّغون رسالات الله ولا يخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله " .
2- إن يحيى بن يعمر كان على درجة من العلم والذكاء جعلته يستطيع استنباط الدليل على صحة رأيه من القرآن الكريم ، بالرغم من أن غيره ـ ومنهم الحجّاج ـ لم يصلوا إلى هذا الاستنباط . وهذا دليل على أن العلم ليس كلمة تقال ، بل العالِم هو من يستطيع استنباط ما لم يستطع غيره استنباطه ، وليس العلم ـ بالضرورة ـ مرتبط بالشهادات ؛ فهناك من يحمل شهادة ، وهناك من تحمله الشهادة .
لقد جاء الدليل صاعقًا قاصمًا ، وقد اعتصم الحجَّاج بذكائه ليسعفه بردٍّ مضلِّل فما استطاع ، وبدت الفرحة والشماتة في عيون الجالسين ؛ فزادت من ضيق الحجّاج وانبهاره ، وفي هذا دليل على كره الناس للحجّاج ولكل ظالم مستبد . ثم رأى الحجاج أن يتراجع في موقفٍ ضائق يضغط عليه بآصاره ؛ فابتسم في تصنُّع وقال : اجلس يا يحيى ، فقد فاتني هذا الاستنباط .
إن ذلك يشير إلى عجز الحجّاج وفشله في مسعاه لإحراج يحيى بن يعمر ، فهل يستسلم ؟ هل يصرف القوم وهو في حالة فشل ؟ كلا .. لأن كل ظالم مستبد يحرص على أن لا يظهر بمظهر العاجز أمام الجماهير . هنا لجأ الحجّاج إلى ما اعتقد أنه يجيده ، وهو الفصاحة وعدم اللحن في القرآن الكريم ، فسأل يحيى بن يعمر سؤال الواثق من نفسه : أتجدني ألحن في قولي يا بن يعمر ؟ وهنا يفحمه يحيى بن يعمر مرةً أخرى بأنه يلحن ، حتى في القرآن الكريم ، وذلك حين رفع المنصوب في كلمة "أَحَبَّ " الواردة في الآية 24 من سورة التوبة ؛ فتغير وجه الرجل وحدثته نفسه أن يهم بصاحبه ، ولكن انهياره النفسي أورثه ترددًا لا عهد له به . وهكذا فإن الحق حين يصدع به صاحبه فإنه يلجم كل ظالم مستبد .
وهنا يبرز أحد المطبلين للسلطان ، فيحاول إنقاذ الموقف بتغيير مجرى الحديث ، فأخذ يسأل الحجّاج عن مدينة واسط التي شيدها باذلاًَ جهده الجاهد في التعمير والتثمير ، وكان الحجاج قد ارتاح إلى هذا الانتقال المنقِذ ، فأخذ يسهب فيما فعله وأنفقه على بناء هذه المدينة ، ثم رأى أن يصانع يحيى ؛ ليظهر أمام الناس بأن هزيمته لم تنل من نفسه ، فقال ليحيى : لم تذكر لنا رأيك في مدينة واسط يا يحيى ! فسكت الرجل ولم يردّ ، وتوجهت العيون إليه ، فزادت من حرج الحجّاج وتورطه ، فأعاد عليه السؤال مغيظًا ، فقال يحيى : أيها الأمير ، ماذا أقول عن واسط ، وقد شيَّدْتَها من غير مالك ، وسيسكنها أهلك ؟!
إن هذا المشهد يشير إلى عدة أمور يجب أن لا تفوتنا ، ومنها :
1 ـ كل حاكم ظالم له مجموعة من المنتفعين الذين يزينون أعماله للناس وينقذونه في المواقف الحرجة ، فيجب كشف ألاعيبهم ؛ لأن الحاكم الظالم يعتمد عليهم اعتمادًا كبيرًا .
2 ـ إن الحاكم الظالم لا يستسلم بسهولة أما مناوئيه ، ولكن على العلماء والمصلحين أن لا ييأسوا من الاستمرار في قول كلمة الحق في سبيل الإصلاح حتى يحققوا أهدافهم .
3 ـ إن السكوت في بعض المواقف أبلغ من الكلام ، كأن يطلب منه الحاكم الظالم أن يبدي رأيه في أمرٍ ما ، فيرفض الكلام ، كما فعل يحيى بن يعمر .
4 ـ إن سكوت العالم في مثل هذه المواقف ليس ناتجًا عن ضعف فيه أو في حجته ، وإنما ليغيظ هذا الحاكم الظالم أو يحرجه أمام شعبه .
نفَذَ صبر الحجّاج ، وتلهَّب الجمر في عينيه ، ثم صاح : ما حملك على هذا ؟ فقال يحيى في اعتداد : ما أخذ الله ـ تعالى ـ على العلماء في علمهم ألا يكتموا الناس حديثًا . فأطرق الحجّاج منخذلاً ، وساد صمتٌ حائر غمر المكان لحظات ، ورأى أن يقوم بعملٍ ينقذ خشيته ، فصاح بيحيى : لا تساكنِّي ببلدِ أنا فيه ، فاذهب منفيًا إلى خراسان . وعندما ذهب يحيى إلى خراسان وجد صيته الطائر يسبقه هناك ، ورأى الجميع يتحدثون بمجابهته للحجاج مكبِرين مقدِّرين ، ودنا خراساني ، فسأله في تعجُّب : ألم تخشَ سيف الحجّاج ؟! فردَّ في إيمان الواثق : لقد ملأتني خشية الله ، فلم تَدَعْ مكانًا لخشية إنسان .
مما سبق يمكن استنتاج الأمور التالية :
1 ـ يجب على العلماء عدم كتمان علمهم خوفًا من بطش السلطان .
2 ـ إن نفي العلماء والمصلحين ، التي يعتقد الحاكم الظالم أنه يخدمه ويخدم مصالحه ، قد يكون فيه الخير الكثير للعالم والمصلح ودعوته وانتشارها .
3 ـ من خشي الله حق الخشية ، لا يخشَ أحدًا غيره ، وأحق الناس بهذا الأمر هم العلماء والمفكرون والمصلحون .
7 ـ سيميائية بعض العبارات الواردة في النص :
سنناقش فيما يلي الدلالات والإشارات المحتملة لبعض العبارات الواردة في النص كنموذج ، ويمكن لمن أراد الاستزادة أن يبحث في سيميائية عبارات أخرى في ضوء الفهم العام والتفصيلي للنص :
1 ـ وقد شاء له القدر أن يُبتلَى بالحجّاج ، أو يُبتَلَى الحجّاج به : فيه إشارة على أن طريق الإصلاح ليست مفروشة بالورود والرياحين ، بل هي طريق صعبة وشاقة ، وفيها من الابتلاءات ما يمحِّص العلماء والمفكرين والمصلحين ؛ ليميز الخبيث من الطيب ، والصادق من الكاذب .
2 ـ فأجاب في المسجد الجامع : "إن الحسن والحسين من ذرية الرسول " : في ذلك إشارة إلى أن على العلماء والمصلحين أن ينشروا ما ينادون به ليصل إلى أكبر عدد ممكن من أفراد الشعب ، ولا يقتصروا على بعض الناس الذين لا يحتمل أن يبلغوا الحاكم الظالم ؛ لأن العالم أو المصلح يجب أن لا يخشى في قول الحق لومة لائم .
3 ـ ثم هو ـ أي يحيى ـ يناصر في اعتدال ، فلا يوازن بين الصحابة لينصر فريقًا على فريق : في ذلك إشارة إلى أن العالِم أو المصلح يجب أن يكون هدفه الإصلاح ونصرة الحق ابتغاء مرضاة الله ، وأن لا يكون هدفه نصرة فريق أو جماعة أو فئة .
4 ـ الحسين والحسن من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنْ غَضِبَ الحجّاج : في ذلك إشارة إلى أن العالِم أو المصلح يجب أن لا يحسب حسابًا لغضب السلطان أو الحاكم عندما يصدع بدعوته أو بقول الحق وبيانه للناس .
5 ـ فيتنمر الحجاج متحفزًا : دليل على شدة غضبه لدرجة أنه كاد يفتك بيحيى كالنمر الذي يتحفز للانقضاض على فريسته ، وكذلك كل حاكم ظالم لا يتورع عن محاولة البطش بمخالفيه .
6 ـ فيتطلع يحيى إلى الحاضرين ، ثم يصيح بصوت مجلجل ، وإيمانٍ وثّاب : فيه إشارة إلى أن هدف المصلح يهتم بأن تبلغ رسالته إلى الناس بالدرجة الأولى قبل أن تصل إلى الحاكم الظالم .
7 ـ وبدت الفرحة والشماتة في عيون الجالسين : دليل على العلاقة السيئة بين الحاكم الظالم وأفراد شعبه ، وهذا لن يكون في صالحه بحالٍ من الأحوال .
تحليل سيميائي مقترح لنص
بردة كعب بن زهير
للصف العاشر الأساسي في فلسطين / الجزء الثاني
مقدمة :
عندما بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخذ يدعو إلى الإسلام ، انطلق كعب بن زهير بن أبي سلمى ، وأخوه بُجَير ، يستطلعان أمر هذا الدين الجديد ، حتى بلغا " أبرُقَ العزّاف " ، وهو ماء في الطريق إلى المدينة ، فقال كعبٌ لبُجَير : القَ الرجل ، فأنا مقيم ٌ لك ها هنا ، وانظر ما يقول لك ، فقدمَ بجير على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسمع منه وأسلم . فبلغ ذلك كعبًا ، وكان نَدِمَ على رغبته في الإسلام ، فهجا الرسولَ - عليه السلام - ونال من أعراض المسلمين ، فلما بلغ ذلك الرسولَ - عليه السلام – أهدر دمه . فكتب بجيرٌ إليه يخبره الخبر . وعندما فتح المسلمون مكة ، كتب بجير إلى أخيه يأمره أن يأتي إلى الرسول – عليه السلام – ويبايعه على الإسلام ، فأقبل على الرسول بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رَحُبَت ، وكان ملثمًا بعمامته ، فقال : يا رسولَ الله ، هذا رجلٌ يبايعك على الإسلام ، فبسط – عليه السلام – يده ، فحسر كعبٌ عن وجهه ، وقال : هذا مكان العائذ بك يا رسولَ الله ، اأنا كعب بن زهير ، فَتَجَهَّمَتْهُ الأنصار ، وأغلظت له ؛ لِما كان منه ، وأرادت الفتك به ، وأَحَبَّ المهاجرون أن يسلم ، ويُؤَمِّنَهُ الرسولُ – عليه السلام – فأمَّنَهُ ، فأنشد هذه القصيدة ، فكساه الرسولُ بُردةً ، فسُمِّيَت هذه القصيدة ( البُردة ) .
وهذه القصيدة من شعر المخضرمين ، وهم الشعراء الذين عاشوا في الجاهلية والإسلام ، وقد افتتحها الشاعر بالغزَل ، جريًا على عادة شعراء الجاهلية ، ثم تحدَّث عن الناقة التي حمَلَتهُ إلى المحبوبة ، ثم جاء على الغرض الرئيس الذي قال من أجله قصيدته ، فاعتذر إلى الرسول الكريم ، واستعطفه ، بعد أن أظهر خوفه وجزعه ، ومدح الرسول – عليه السلام - ، ثم مدح المهاجرين الذين رغبوا في إسلامه .
وكعب بن زهير ، شاعر مخضرم ، شهد الجاهلية والإسلام ، وهو ابن الشاعر الجاهلي الحكيم زهير بن أبي سلمى ، توفي سنة ستٍّ وخمسين للهجرة .
1 ـ سيميائية العنوان :
يتحدث العنوان عن بُردة ، وهي الثوب المخطط ، وهذه البردة كانت أصلاً للرسول – صلى الله عليه وسلم – ولكنه كساها كعب بن زهير ؛ فسميت : " بردة كعب بن زهير " . ولكن لماذا اختيرت هذه البردة لتكون عنوانًا للنص ؟! الواقع أن هذه البردة كان لها شأن عظيم في حياة كعب ؛ لأنها حولت حياته من إنسان مهدور الدم ، إلى إنسان معزز مكرَّم ، قد بلغ من رضا الرسول – صلى الله عليه وسلم – عنه أن كساه بردته . فهذه البردة تحمل معاني الرضا والأمن والأمان والسلامة والإسلام ، بعد الخوف والشدة وإهدار الدم وضيق الأرض بما رحُبَت بسبب ما قام به كعب من هجاء للرسول - صلى الله عليه وسلم – ونَيله من أعراض المسلمين .
2 ـ سيميائية الأسماء :
استهل الشاعر قصيدته بذِكر " سعاد " ، وأغلب الظن أن " سعاد " ليست شخصية حقيقية ؛ فلقد سمَّى الشاعر الجاهلي له محبوبةً رمزًا لغويًا ، واسمًا فنيًا ، وعنوانًا موضوعيًا ( عبد الجليل ، 1982 ، 51 ) . ومن الملاحظ أن اسم " سعاد " لم يستعمله الشعراء الجاهليون إلا في المدح . فالشاعر كعب بن زهير استعمل هذا الاسم في مدح الرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذه القصيدة . واستعمله ربيعة بن مقروم حين مدح مسعود بن سالم بن أبي سلمى بن ربيعة في قصيدته التي مطلعها :
بانت سعادُ فأمسى القلبُ معمودا وأخلَفَتْكَ ابنةُ الحُرِّ المواعيدا
واستعمله الأعشى حين مدح هوذة بن علي الحنفي في قصيدته التي مطلعها :
بانت سعادُ وأمسى حبلُها انقطعا واحتلَّت الغَمرَ فالجُدَّينِ فالفَرَعا
واستعمله الأعشى أيضًا حين مدح إياس بن قبيصة الطائي في قصيدته التي مطلعها :
بانت سعادُ وأمسى حبلُها رابا وأحدَثَ النأيُ لي شوقًا وأوصابا
حتى أن إبا نواس ، الشاعر العباسي، قد استعمله عندما مدح العباس بن عبيد الله في قصيدته التي مطلعها:
حلَّت سعادُ وأهلُها سَرِفا قومًا عدًى ، ومحلةً قذفا
فليس عبثًا أن يقف كعب بن زهير ليختار سعاد ، مستهلاً بها أبياته ، مصرحًا باسمها ، واصفًا ما وصف ـ وهو الحريص على إبعاد أية مظنة من مظان الاتهام ـ مادحًا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ، معتذرًا ، راجيًا الصفح والعفو ، خائفًا من الفتك به ، مختبئًا وراء كلماته ، ويصادف شعره من رسول الله رضًا ليطلب إليه أن يكشف له عن وجهه ، وما سعاد في هذا الصدد سوى رمز يهدف إلى ما يريده الرجل ، ويكشف عما يأمله المذنب ( عبد الجليل ، 1982 ، 26 ) . وسعاد هي التي لا يشقى صاحبها ، ولا يخيب طالبها بالأمل الباسم والحياة الواعدة ( عبد الجليل ، 1982 ، 163 ) .
ولكن لماذا يُستخدم هذا الاسم بالذات في القصائد التي غرضها الأساسي المديح ؟! إن من يمدح إنسانًا إنما يريد من ذلك أن ينال شيئًا من الممدوح ، سواءً أكان ذلك مالاً أو جائزةً أو رضًا أو عفوًا عن ذنب اقترفه ، فإذا حقق له الممدوح ما يريد فإنه سيكون في سعادةٍ غامرة .
فكأن كعب بن زهير يقول : أسعِدني يا رسول الله بالعفو عني ؛ فأنت الكريم القوي الشجاع ، الذي يعفو عند المقدرة ، وقد أعطاك الله القرآن الكريم ، وحولك المسلمون المهاجرون ذوو الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة . . . إلخ .
3 ـ سيميائية البناء الداخلي للشخصيات :
وردت في القصيدة عدة شخصيات هي على الترتيب : سعاد ، الناقة ، الوشاة ، الشاعر نفسه ، أصدقاء الشاعر ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المسلمون المهاجرون .
أما سعاد فإنها تتصف بالصفات التالية : تخلف الوعد ، لا تقبل النصيحة ، تتغير كثيرًا في تعاملها، تنقض العهود . ولكن ما علاقة هذه الصفات بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب العفو منه؟ أغلب الظن أنه يشير بهذه الصفات إلى السعادة التي يبحث عنها ؛ فقد تخيلها فتاةً يحبها اسمها سعاد، ولكنها فارقته وأخلفت وعده ، ولم تدم على حال ، وهو يتمنى أن تعود إليه ، ولا يكون ذلك إلا بعفو الرسول – صلى الله عليه وسلم – عنه . إذن فالشاعر يرمي من وراء ذكر محبوبته المفترَضة التي فارقته ، أن يستعطف النبي – صلى الله عليه وسلم – لكي يعفو عنه ، فيجعله سعيدًا .
أما الناقة فلم ترِد أوصاف معنوية لها ، حتى في النص الكامل للقصيدة .
وأما الوشاة فلم نعرف عنهم سوى أنهم قالوا له : إنك مقتولٌ لا محالة . ولعله كان يقصد بالوشاة هنا من لم يُسلموا بعد ، فهم يريدون أن يثنوه عن الذهاب للرسول ليعلن إسلامه ، وذلك بتخويفه من فتك الرسول به . وربما كان يقصد بالوشاة الأنصار الذين تجهَّموه عندما كشف عن وجهه ، وأغلظوا له ، وأرادوا الفتك به . فكأنه يقول للرسول – صلى الله عليه وسلم – : اعف ُ عني يا رسول الله ، ولا تقتلني، ولا تطع هؤلاء الذين يريدون قتلي والفتك بي .
وأما الشاعر نفسه فإنه يتصف بما يلي : لا يسمع لكلام الوشاة ، يؤمن بالقضاء والقدر ، يؤمن بأن مصير كل إنسان هو الموت ، يأمل بالعفو من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، يؤمن بالقرآن الكريم، جاء تائبًا معتذرًا معلنًا إسلامه .
وأما أصدقاء الشاعر فقد تخلوا عنه ، وكل منهم ادَّعى أنه مشغول ، ولا يقدر على مساعدته . وربما قصد الشاعر من وراء ذلك أن يبين للرسول – صلى الله عليه وسلم – أن الأعداء قد حاولوا ثنيَهُ عن إعلان إسلامه ، وأن الأصدقاء قد تخلوا عنه في محنته ، فلم يبق له أمل ورجاء إلا في رسول الله أن يعفو عنه ويتجاوز عن زلته .
وأما الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقد اختار الشاعر من صفاته : أنه شجاع ، يهابه من يقف أمامه ، وتخافه سباع الجو وسباع البر ، وكلامه فاصل حاسم لا يُرَدُّ ، وهو نورٌ يهتدي به الناس . وذِكْرُ الشاعر لهذه الصفات بالذات يحمل في طياته حثًا للرسول – صلى الله عليه وسلم – على العفو عنه ؛ لأنه إن عفا عنه فإن هذا العفو ليس ناجمًا عن ضعف وخَوَر ، إنما هو العفو عند المقدرة ، ثم إن الرسول لم يأتِ للانتقام وسفك الدماء ، إنما جاء نورًا وهاديًا للعالمين ، فهذا الرسول بهذه الصفات حريٌّ به أن يعفو عمَّن جاءه تائبًا نادمًا على ما بَدَرَ منه .
وأما المهاجرون من قريش فقد خصهم الشاعر بمدحه لأنهم أحَبّوا أن يُسلِم ، وحثوا الرسول على أن يؤمِّنَه ويعفو عنه . فمن صفاتهم التي ذكرها الشاعر : لم تكن هجرتهم عن ضعف ، أو قلة سلاح ، أو خوف من الأعداء ، ولا حُمقًا وانعزالاً عن الناس . وهم أنوفهم مرفوعة إلى أعلى عزةً وفخارًا ، وهم أبطال في المعارك ، ولكنهم لا يفرحون كثيرًا إذا انتصروا ، ولا يجزعون إذا هُزِموا ، وهم شجعان لا يفرون من المعركة .
4 ـ سيمياء البناء الخارجي للشخصيات :
وردت في القصيدة أوصاف خارجية لكل من : سعاد ، والناقة التي حملتها إلى البلاد التي ذهبت إليها بعد رحيلها من بلد الشاعر .
أما سعاد فمن ملامحها الخارجية التي وردت في القصيدة : أنها في صوتها غُنَّة ، تنظر خافضةً عينيها ، وهي مكحولة العينين ، ضامرة البطن ، رقيقة الخاصرة ، كبيرة العجز ، متوسطة الطول ، أسنانها برّاقة ناصعة البياض . وما دام الشاعر يقصد بسعاد سعادته المفقودة التي يتمنى رجوعها ، فإنه يشير هنا كم هي جميلة تلك السعادة التي ستحل عليه إن عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما الناقة التي حملت محبوبته سعاد ، ففيها كل الصفات الجميلة . ومن هذه الصفات التي نستنبطها من النص الكامل للقصيدة : عتيق ( كريمة ) ، نجيبة ( قوية خفيفة ) ، مرسال ( سريعة ) ، عُذافرة ( صلبة عظيمة ) ، قوية على السير ، كثيرة العرق ، حادة البصر ، ضخمة العنق ، غلباء (غليظة العنق ) ، وجناء ( عظيمة الوجنتين ) ، عُلكوم ( شديدة ) ، مُذكَّرة ( عظيمة الخلقة تشبه الذُّكران من الأباعر ) ، واسعة الجنبين ، طويلة العنق ، جلدها في غاية النعومة والملاسة ، مداخلة النسَب في الكرم ، مهجَّنة ( كريمة الأبوين ) ، قَوداء ( طويلة الظهر والعنق ) ، شمليل ( خفيفة سريعة ) ، عَيرانة ( تشبه الحمار الوحشي في سرعته ونشاطه وصلابته ) ، ممتلئة باللحم من كل الجوانب ، ذيلها غليظ طويل كثير الشَّعَر ، قَنواء ( محدودبة الأنف ) ، يظهر للعارف بالإبل الكرام كرمٌ ظاهر في أذنيها لحسنهما وطولهما، في خديها سهولة وليونة ، غاية في الإسراع في سيرها ، أعصاب قوائمها شديدة كالرماح السُّمر .
هذه الصفات كلها صفات مدح ، فلماذا أسهب الشاعر في مدح هذه الناقة بالرغم من أنها ساعدت في بُعد محبوبته سعاد
5 ـ سيميائية الزمان والمكان :
حدثت أحداث هذا النص بعد فتح مكة ، حيث كان المسلمون في أوج قوتهم وعزتهم ، فليس أمام كعب بن زهير إلا أن يندم عما بدر منه بحق الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين ، ويطلب العفو من رسول الله ، كما ليس أمامه إلا أن يعترف بأن الإسلام هو الدين الحق ، وأنه لا أحد يستطيع أن يقف في وجهه .
أما الزمن الذي حدثت فيه الأحداث المفترضة المذكورة في القصيدة ، فإنه يشمل :
1 ـ فترة ما قبل رحيل محبوبته سعاد ، حيث كان يعيش في أمن واستقرار ، وهي تشير إلى الفترة التي عاشها الشاعر قبل أن يهدر الرسول - صلى الله عليه وسلم – دمه ، حيث كان يعيش في أمن واطمئنان .
2 ـ فترة رحيل محبوبته سعاد ، حيث المعاناة والآلام النفسية التي قاساها ، وهي تشير إلى الفترة التي عاشها منذ أن أُهدِرَ دمه حتى قدومه على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وما كان فيها من معاناة.
3 ـ الفترة التي ألقى فيها قصيدته على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفيها يتحدث الشاعر بصريح العبارة - دون إشارة أو تلميح – عن أمله في أن يعفو رسول الله عنه ؛ حتى تعود إليه سعادته .
أما المكان فقد ألقى الشاعر قصيدته بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأغلب الظن أن ذلك في المسجد النبوي ، الذي هو في المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية آنذاك ، حيث القوة والعزة والمنعة . وبذلك نجد أن الزمان والمكان يتعاضدان في إبراز الظرف الذي حدثت فيه الدواعي التي دعت إلى قول هذه القصيدة ، وما كان يطمح إليه الشاعر من إلقائها .
وأما الأحداث التي ذكرها الشاعر في قصيدته ، فقد حدثت في عدة أماكن ، وكل مكان منها له دلالاته وإيحاءاته . فالمكان الأول هو مكان إقامة الشاعر ، فهذا المكان يشير إلى ما كان عليه الشاعر من أمن واطمئنان وسعادة ، حيث كانت محبوبته سعاد ( التي تشير إلى السعادة ) قريبة منه ، يسعد بلقائها والقرب منها . أما المكان الثاني فهو الطريق الذي سلكته سعاد عندما غادرت الديار لتفارقه ، فهذا المكان يشير إلا المرحلة الانتقالية التي عاشها منذ إهدار دمه حتى قدومه على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ، حيث عانى ماعانى من الشدة والخوف والقلق وعدم الاستقرار . أما المكان الثالث فهو مكان حقيقي وليس مفترضًا ، وهو المكان الذي يقف فيه ليُلقي قصيدته ، وهذا المكان – كما سبق أن قلنا – هو المسجد النبوي في المدينة المنورة .
6 ـ سيميائية الأحداث الواردة في النص :
تبدأ الأحداث بفراق محبوبته سعاد ، ورحيلها من دياره إلى ديار أخرى بعيدة عنه . والشاعر يشير بذلك إلى أنه كان يعيش سعيدًا آمنًا مطمئنًا ، ولكن هذه السعادة لم تدم ، بل فارقته عندما توعَّده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأهدر دمه .
ثم يبدأ الشاعر بوصف محبوبته سعاد بأوصاف حسية غاية في الجمال ، ولكن صفاتها المعنوية ليست كذلك ؛ فهي تخلف الوعد ، ولا تقبل النصيحة ، وتتغير كثيرًا في معاملتها ، ولا تفي بالوعود . وكأن الشاعر يشير إلى أن سعادته كانت في ظاهرها جميلةً جذابة ، ولكنها في حقيقتها وجوهرها عكس ذلك ؛ لأنها لم تكن سعادة قائمة على الإسلام والإيمان بالرسول – صلى الله عليه وسلم - .
ثم يتحدث الشاعر عن وصول سعاد إلى بلاد بعيدة لا يمكن الوصول إليها إلا على ظهور النوق الكريمة النشيطة . وكأن الشاعر يريد أن يقول : إن عودة السعادة إليه ليس بالأمر الهين أو اليسير ، ولا يقدر عليه إلا الكريم الشجاع ( يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . وفي ذلك ترقيق لقلب الرسول لكي يعفو عنه .
ثم يذكر الشاعر أن الوشاة خوفوه وقالوا له : إنك مقتول لا محالة ، ولكنه لم يلتفت إلى أقوالهم ؛ لأنه يؤمن بالقضاء والقدر ، وأن كل ما قدَّر الرحمن مفعول . ولعل الشاعر يقصد بالوشاة أولئك الذين لم يؤمنوا بعد ، وحاولوا أن يثنوه عن الذهاب إلى رسول الله والاعتذار إليه . وربما يقصد بالوشاة الأنصار من أهل المدينة الذين تجهموه وأغلظوا له وأرادوا الفتك به عندما اكتشفوا أمره كما يذكر الشاعر
تحليل سيميائي مقترح لنص
" يحيى بن يعمر .. شجاعة في الحق "
للصف العاشر الأساسي في فلسطين / الجزء الثاني
مقدمة :
النص الذي بين أيدينا مقالة تاريخية تصور مقارعة بين الحجَّاج ويحيى بن يعمر ، ليست بالسيف، ولكنها بالحجة على الملأ من الناس ، كان فيها يحيى صاحب الحجة المفحِمة التي جعلت الحجاج يبهت ، وغاية ما قام به أن نفى يحيى إلى خراسان .
والمقالة التاريخية لون من ألوان المقالة الموضوعية ، وتعتمد على جمع الروايات والأخبار والحقائق ، وتمحيصها وتنسيقها وتفسيرها وعرضها . وللكاتب أن يتجه في كتابتها اتجاهًا موضوعيًا صِرفًا تتوارى فيه شخصيته ، وله أن يضفي عليها غلالة إنسانية رقيقة ، فيزينها بالقصص ، ويربط بين حلقات الوقائع بخياله ، حتى تخرج منها سلسلة متصلة مستمرة. ويُعنى كاتبها ـ كما في كل ألوان المقالة الموضوعية ـ بوضع تصميم وخطة لما يكتب . وخطة المقالة هي أسلوبها من حيث التقسيم والترتيب ؛ لتكون قضايا المقالة مترابطة ، بحيث تكون كل قضية نتيجة لما قبلها ، مقدمة لما بعدها ، حتى تنتهي جميعًا إلى الغاية المقصودة ، وهذه الخطة تقوم على المقدمة والعرض والخاتمة .
والنص للدكتور محمد رجب البيومي ، وهو باحث عربي من مصر ، سخيُّ العطاء ، ولد عام 1923 م ، وتلقَّى تعليمه في جامعة الأزهر ، وتدفقت بحوثه ومقالاته عبر الكثير من كبريات المجلات المصرية والعربية . حصل على جوائز كثيرة من مجمع اللغة العربية ، والمجلس الأعلى للفنون والآداب بمصر ، وهو عضو مجمع البحوث الإسلامية ، ورئيس تحرير مجلة الأزهر المصرية . له ديوان شعر مطبوع بعنوان : " صدى الأيام " ، وله مسرحيات شعرية ، وهو ما فتئ يحاور ويحاضر ، ويكتب عما يكابد .
1 ـ سيميائية العنوان :
لو نظرنا إلى عنوان النص لوجدناه يتحدث عن " يحيى بن يعمر " ، وهو أحد التابعين، عاش في زمن الدولة الأموية ، وبالذات أيام حكم الحجَّاج في الكوفة باعتباره أحد ولاة الدولة الأموية . ولكن النص لا يتناول جميع جوانب حياة يحيى بن يعمر ؛ ولذلك فقد حدد العنوان جانبًا واحدًا من حياته ، وهو جانب الشجاعة ، ولكنها ليست شجاعة في ميدان المعركة ، إنما هي شجاعة في ميدان قول الحق أمام سلطان جائر . إذن فقد جاء عنوان النص ليحدد بالضبط مضمون النص وفكرته العامة . وعند دراستنا للنص كاملاً لا نجده يخرج عن هذا النطاق .
ويمكن ملاحظة بعض الأمور على هذا العنوان ، منها :
1 ـ يتحدث العنوان عن الشجاعة في الحق ، وكأنه يطلب منا أن لا نخشى في الله لومة لائم ، وأن نقول كلمة الحق في وجه الطغاة المتجبرين ـ وما أكثرهم في هذا الزمان ـ وأن نكشف أخطاءهم وألاعيبهم ، ولكن بالمنطق والحجة الساطعة المفحِمة إ مما يجعل موقف هؤلاء الطغاة ضعيفًا أمام الشعوب .
2 ـ إن يحيى بن يعمر شخصية حقيقية ، ولكن اختيار هذا الاسم بالذات ليكون عنوانًا وشخصية مركزية في النص ـ بالرغم من أن تاريخنا مليء بقصص الشجاعة في الحق ـ له دلالة خاصة ، فهو يحيى (يحيا) رغم شجاعته في الحق ، فلم يستطع الحجاج قتله ، وبقي حيًا ؛ وفي هذا حث لنا على الشجاعة في قول الحق ، دون خوف من الموت ؛ فإن الموت والحياة بيد الله وحده . ثم إن يحيى هو " ابن يعمر " ، فشجاعته كانت نتيجتها العمار لا الخراب ، فقد كان من نتائجها أن ألغى الحجاج قراره بمعاقبة من يقول إن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما أن اسم " يحيى بن يعمر " من الأسماء التي تأتي علو وزن الفعل المضارع الذي من دلالاته الاستمرار ، فالحياة والإعمار مستمران بفضل شجاعة هذا التابعي العظيم ، وربما لو أنه لم يقم بقول الحق في وجه الحجاج لكان الموت والقتل وخراب البيوت من نصيب الكثيرين ممن يثبت أنهم يحبون الحسن والحسين .
2 ـ سيميائية الصور :
وردت صورتان مصاحبتان للنص ، جاءتا في الصفحتين الثانية والثالثة من النص البالغ طوله أربع صفحات بالإضافة إلى صفحة المقدمة .
أما الصورة الأولى فهي ـ كما يبدو ـ للحجاج يقف مزهوًّا ، رافعًا رأسه في كِبْرٍ وخُيلاء ، لا يمكن لمن يرى هذه الصورة إلا أن يحكم بأنها صورة لإنسانٍ متكبرٍ متغطرس ، فإذا عرفنا أنها صورة لحاكمٍ أو والٍ ، عرفنا أنه لا بد أن يكون ظالمًا متسلطًا على شعبه .
وأما الصورة الثانية فهي نفس الصورة السابقة ، ولكن يقف إلى جانبها إنسان ضعيف الجسم ، رث الثياب ، ينظر إلى الحجاج في خوفٍ شديد ، فقد فتح فمه وعينيه ، ووضع يده على رأسه ، تتخيله حين تنظر إليه أنه يرتعد خوفًا ؛ ولذلك فإننا بالتأكيد نحكم أنه ليس يحيى بن يعمر ، فمن كان شجاعًا في قول الحق ، فإن ملامح الشجاعة تبدو واضحةً عليه ، ولكن ربما هي صورة لواحد من عامة الشعب ؛ ليدلل ذلك على مدى الرعب الذي يصيب من يقف أمام الحجاج ، وبالتالي فإنه يريد أن يصور لنا مدى بطش الحجاج بأفراد شعبه ورعيته ، وهو دليل على مدى شجاعة يحيى بن يعمر ؛ لأنه لم يجهر بالحق في وجه أي حاكم ، وإنما في وجه حاكم ترتعد فرائص من يقف أمامه ، ولكن هذا الحاكم الظالم لم يستطع أن يفعل شيئًا ذا بال في إنسانٍ كشف عيوبه وحججه الباطلة أمام الملأ ، فلا نامت أعين الجبناء .
3 ـ سيميائية البناء الداخلي للشخصيات :
يدور النص حول شخصيتين محوريتين ، هما : يحيى بن يعمر ، والحجاج بن يوسف الثقفي ، وهناك الشخص الذي أراد أن يمدح الحجاج حين أفحمته حجة يحيى بن يعمر . أما شخصية الحسين بن علي فكانت مجرد مادة للمناظرة بين يحيى والحجاج ، فهو قد استشهد منذ مدة . كذلك هناك الشخصية الجماعية متمثلة في الذين أحبوا الحسين ولكنهم لم يستطيعوا التصريح بهذا الحب خوفًا من بطش الحجاج.
أ ـ أما يحيى بن يعمر فكان يتصف بما يلي : كان من المتضلعين من علوم اللغة والشريعة ، ومن أفاضل التابعين ، وشارك مشاركة مثمرة في غرس بذور النحو مع أبي الأسود الدؤلي ، ثم إنه كان كاتبًا لا يتلقى العلم مشافهةً فحسب ، بل يدون ويسجل ، كما أنه المخترع الأول لنقط الحروف بالاشتراك مع ناصر بن عاصم الليثي ، وله آراء كثيرة جدًا في الفقه والتفسير والحديث ، كما اتصف بالشجاعة الأدبية في الحق ، والجرأة الخلقية في مواجهة الطغيان .
ومن مجمل هذه الصفات يمكن إبراز الملاحظات التالية :
1- يجب أن يؤثِّر العلم في سلوك صاحبه ؛ فكل هذه العلوم التي برع فيها يحيى بن يعمر كانت دافعًا له لأن يسعى إلى الإصلاح وتصحيح الخطأ ، ولو كان في ذلك تعريض نفسه للخطر .
2- إن إيراد هذه الصفات العلمية ليحيى بن يعمر ، ثم ذِكر أنه قارع الحجاج بالحجة والبرهان ، وتحداه ، لهو إشارة إلى الواجب الملقى على عاتق العلماء والمثقفين في بيان الحق وعدم السكوت على الباطل . وكما قال الإمام أحمد بن حنبل : " إذا سكت العالِم ، وجَهِلَ الجاهل ، فمتى يتبين الحق ؟! " .
3- في إيراد هذه الصفات إشارة خفية إلى ذم من يمكن أن نسميهم " علماء السلطان " الذين لا يستخدمون علمهم إلا لتبرير أخطاء الحاكم ، أو تزيين ما يفعله الحاكم في عيون الشعب . ولكنهم لو كانوا كيحيى بن يعمر لكان خيرًا لهم في الدنيا والآخرة .
ب ـ أما الحجاج بن يوسف الثقفي ، فقد كان من أكثر الشخصيات التاريخية إثارةً للجدل ؛ فقد اتصف بالعديد من الصفات الإيجابية ، إلى جانب العديد من الصفات السلبية :
ـ فمن صفاته الإيجابية أنه كان رجلَ دولةٍ قويًا ، اتصف بالفصاحة والذكاء والحزم ، وأصلح النقد ، واعتنى بمشاريع الري ، وفتح بلدانًا كثيرة ، حتى أن خيوله وطئت بلاد السند والهند .
ـ ومن صفاته السلبية : القسوةُ ، وأخْذُ مناوئيه بالشبهات ، وإطلاقه العنان للسيف ، وقتله ابن حواري رسول الله عبد الله بن الزبير ، وسعيد بن جبير وهو من خيرة التابعين ، بالإضافة إلى قتل خلقٍ كثير .
ولكن الكاتب قد ركَّز على مقالته التاريخية هذه على الصفات السلبية ، وخاصة بطشه بمخالفيه ، وخاصةً من يقول إن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذه المخالفة هي محور شجاعة يحيى بن يعمر ،وصدعِهِ بالحق في وجه الظالم .
ومن مجمل ما ذُكر من صفات الحجاح في النص ومقدمته ( بين يدي النص ) يمكن إبراز الملاحظات التالية :
1- إذا اتصف الحاكم أو القائد أو الزعيم بصفات حسنة وأخرى سيئة ، فإن صفاته الحسنة ليست حجة للسكوت على أخطائه ، وخاصةً إذا كان فيها ظلم للرعية .
2- يجب أن يكون الحاكم أو الزعيم رحيمًا برعيته ، وقدوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال له ربه في القرآن الكريم : " فبما رحمةٍ لنتَ لهم ، ولو كنتَ فظًّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك " .
4 ـ سيميائية البناء الخارجي للشخصيات :
لم يرِدْ في النص أية ملامح خارجية لشخصيات النص ، اللهم إلا شكل الحجاج عند مناظرته ليحيى بن يعمر ، حيث بدا "كالح الوجه ، مقطب الجبين" دليلاً على اهتمامه بهذه المناظرة أيما اهتمام ، وعلى خشيته أن تكون نتيجة المناظرة في غير صالحه ، وهو ما حدث بالفعل .
5 ـ سيميائية الزمان والمكان :
زمان النص هو عصر الدولة الأموية ، وعلى وجه الخصوص زمن الحجاج بن يوسف الثقفي عندما كان واليًا على الكوفة .. وهذا الزمن له دلالاته الخاصة ، فهو زمن القهر والظلم والقسوة وتكميم الأفواه . واختيار الكاتب لهذا الزمان بالذات ربما لأنه يشبه إلى حد كبير الوقت الحاضر الذي نعيشه ، حيث لا يجرؤ أحد ـ إلا من رحم ربي ـ أن يقول للظالم : كفى ظلمًا ، واحكم في رعيتك بما يُرضي الله. فهو دعوة للعلماء والمفكرين الذين يعلمون الحق ولا يجرؤون على التصريح به ، أن يقولوا الحق ويبينوه للناس ، ولا يخشوا في الله لومة لائم ، فلا خوف من سلطان جائر ،فهذا يحيى بن يعمر قد واجه من هو أشد ظلمةً وقسوة من هؤلاء الظلمة الجبابرة ، فنصره الله عليه ولم يتعرض لسوء .
أما المكان فهو مدينة الكوفة ، وما أدراك ما مدينة الكوفة ؟! إنها مدينة العلم والأدب من ناحية ، وهي بمثابة العاصمة الثانية للدولة الأموية ( حيث كانت دمشق عاصمة الدولة الأموية ) . فهذه المدينة فيها ما لذَّ وطاب من مباهج الدنيا وزينتها وزخرفها وخيراتها التي يسعى الكثيرون إلى التمتع بها . إن هذه المدينة تجمع بين متناقضين : طلب العلم والسعي لمرضاة الله ، وكذلك الاستغراق في الملذات والنعيم الدنيوي . وربما كان الكاتب ـ وهو المصري الجنسية ـ يشير إلى مدينة القاهرة ، التي فيها الأزهر الشريف والجامعات المصرية الشهيرة ، وكذلك فيها كل مباهج الحياة وزخارفها ، وفيها الأماكن التي يقصدها الناس من جميع بقاع العالم للتمتع والترفيه . إن اختيار الكاتب لهذا المكان بالذات فيه دعوة للعلماء والمفكرين والمصلحين أن يقتدوا بيحيى بن يعمر ، الذي لم يلتفت إلا لقول الحق وبيانه للناس ، ولم تستطع الدنيا بمباهجها أن تسيطر على قلبه .
6 ـ سيميائية الأحداث :
تبدأ الأحداث بانتشار حب أهل الكوفة للحسين بن علي ، وتضايُق الحجّاج من هذا الحب ، ومقاومته له بكل وسيلة . وهذا حال الكثير من الحكام الظلمة ، فهم يكرهون أن يلتفَّ الشعب حول أحد غيرهم ، حتى لو كان ميتًا ؛ لأنهم يعتبرون ذلك كرهًا للحاكم ، ومناهضة لهم بشكل غير مباشر .
ماذا يفعل الحجّاج لكي يبدد حب أهل الكوفة للحسين بن علي ؟ لقد قام بعدة خطوات هي :
1- عرف سبب هذا الحب ، وهو قرابة الحسين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فحاول أن ينفي أن يكون الحسين من ذرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن انتساب الحسين لفاطمة لا يغير من الأمر شيئًا ، فالأب هو المعتبر في النسب دون الأم على قول من قال :
بنونا بنو أبنائنا ، وبناتُنا بنوهنَّ أبناء الرجال الأباعدِ
2- استخدم أسلوب الخُطَب المطولة . وما أكثر ما يحاول الحكام الظلمة استخدام الخُطَب الرنانة للتغطية على جرائمهم ، وتقديم الكلام المعسول لشعوبهم دون عمل إيجابي نحوهم . وقد تحمل هذه الخُطَب التحذير المبطن للمخالفين ولمن تحدثه نفسه بالخروج عليه .
3- استخدم الشدة بحق من يَثْبُتَ أنه يخالف الحجّاج ، سجنًا وتشريدًا . وهذا ديدن كل الظلمة على مرِّ الزمان ، حيث تمتلئ السجون بالمخالفين ، وتُستَخدَم بحقهم كل ألوان التعذيب والقسوة .
4- بثَّ العيون والجواسيس وكاتبي التقارير ليأتوه بأخبار من يهمس بمخالفة الحجاج . وهذا الأمر متعارف عليه أيضًا في كل زمان ومكان يوجد فيه حكام ظلمة .
إن هذه الخطوات الأربع التي اتخذها الحجّاج تكاد أن تكون هي نفسها التي يقوم بها الحكام الظلمة في الماضي والحاضر وفي كل وقت وحين .
بعد ذلك وصلت للحجاج أنباء بأن يحيى بن يعمر سئل عن الحسين وانتمائه لمحمد صلى الله عليه وسلم فأجاب في المسجد الجامع : إن الحسن والحسين من ذرية رسول الله ، وإن الحجّاج يحكم ولا يفتي ، فإذا أفتى فعن غير عِلم واعتقاد .
مما سبق يتضح ما يلي :
1- إن يحيى بن يعمر قد تحدَّى الحجاج صراحةً .
2- وأنه قد أعلن تحديه له على ملأ من الناس ، بل وفي المسجد الجامع ، حيث اعتبر الحجاج ذلك تحريضًا ضده .
3- إن يحيى بن يعمر قد طعن في علم الحجاج ، وقال بأنه ليس أهلاً للفتوى .
4- إن يحيى بن يعمر هو عالِمٌ جليل ، وهو مسموع الكلمة ، محترَم الرأي ، فإذا أفتى بما يعارض الحجاج فقد تمكَّن من قلوب الناس ، وذهبت دعوى الحجاج في الحسين أباديد .
لقد أدرك الحجاج ـ وهو الداهية ـ أنه لا يستطيع أن يستعمل مع يحيى بن يعمر القسوة والشدة ، وإلا فإن ذلك سيؤلِّب الجماهير عليه ، فماذا يفعل ؟
1- قرر أن يطلب من يحيى بن يعمر أن يأتي بنص واضح من القرآن الكريم يؤيد دعواه .
2- عقد مجلسًا حاشدًا من أعوانه ووجهاء الكوفة حتى يشهدوا عجز يحيى بن يعمر في إثبات صحة دعواه ـ كما قدَّر الحجَّاج ـ .
3- حرص على أن يحضر المجلس شيعة يحيى بن يعمر ومقدِّرو علمه وفضله ؛ لينكشف أمامهم في المعمعة ، فيضيع ما يُنسب إليه من علم وثبات .
4- أرسل من يُحضر يحيى ليتجرع كأس الهزيمة على انكسار .
إن كل هذه الأمور تدل على عدة أمور من بينها :
1- إن الحجاج كان يحسِب ليحيى بن يعمر أكبر الحسابات . وهكذا فإن الحكام الظلمة يحسبون حسابًا للعلماء العاملين ، فلا يجب أن يخشى العلماء بطش الحكام .
2- إن الحجاج لم يجرؤ على استخدام الشدة بحق يحيى بن يعمر ، فليس أمامه إلا محاولة التغلب عليه وقهره بالحجة المفحمة ـ بحسب رأيه ـ .
تبدأ المناظرة ؛ فيسأل الحجاج يحيى بن يعمر عن صلة الحسين برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيرد يحيى في كبرياء : الحسين والحسن من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنْ غضِبَ الحجّاج . فيتنمَّر الحجاج متحفزًا ويصيح : ألَدَيكَ دليلٌ من كتاب الله ؟ فيرد يحيى في ثقة بالغة : معي الدليل من القرآن ، فيستغرب الحجاج ويتهكم ، ويؤكد أنه قرأ القرآن مئات المرات فما وجد فيه أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله . ولكن يحيى بن يعمر يقرأ على الحاضرين الآيات ( 83 ـ 85 ) من سورة الأنعام، وفيها إثبات أن عيسى بن مريم من ذرية إبراهيم ، وهنا يلتفت يحيى بن يعمر إلى الجمهور قائلاً : أيكون عيسى بن مريم من ذرية إبراهيم بنص القرآن ، ولا يكون الحسين من ذرية رسول الله ، وبينهما من القرابة الدانية أكثر مما بين عيسى وإبراهيم ؟
مما سبق يمكن استنتاج ما يلي :
1- كان يحيى بن يعمر يردُّ على الحجاج في كبرياء ، وفي ثقة بالغة ، فلم يضعف أو يرتجف أمام الحجاج . وهذا درس للعلماء في أن لا يخشوا إلا الله ، مصداقًا لقوله تعالى : " الذين يبلِّغون رسالات الله ولا يخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله " .
2- إن يحيى بن يعمر كان على درجة من العلم والذكاء جعلته يستطيع استنباط الدليل على صحة رأيه من القرآن الكريم ، بالرغم من أن غيره ـ ومنهم الحجّاج ـ لم يصلوا إلى هذا الاستنباط . وهذا دليل على أن العلم ليس كلمة تقال ، بل العالِم هو من يستطيع استنباط ما لم يستطع غيره استنباطه ، وليس العلم ـ بالضرورة ـ مرتبط بالشهادات ؛ فهناك من يحمل شهادة ، وهناك من تحمله الشهادة .
لقد جاء الدليل صاعقًا قاصمًا ، وقد اعتصم الحجَّاج بذكائه ليسعفه بردٍّ مضلِّل فما استطاع ، وبدت الفرحة والشماتة في عيون الجالسين ؛ فزادت من ضيق الحجّاج وانبهاره ، وفي هذا دليل على كره الناس للحجّاج ولكل ظالم مستبد . ثم رأى الحجاج أن يتراجع في موقفٍ ضائق يضغط عليه بآصاره ؛ فابتسم في تصنُّع وقال : اجلس يا يحيى ، فقد فاتني هذا الاستنباط .
إن ذلك يشير إلى عجز الحجّاج وفشله في مسعاه لإحراج يحيى بن يعمر ، فهل يستسلم ؟ هل يصرف القوم وهو في حالة فشل ؟ كلا .. لأن كل ظالم مستبد يحرص على أن لا يظهر بمظهر العاجز أمام الجماهير . هنا لجأ الحجّاج إلى ما اعتقد أنه يجيده ، وهو الفصاحة وعدم اللحن في القرآن الكريم ، فسأل يحيى بن يعمر سؤال الواثق من نفسه : أتجدني ألحن في قولي يا بن يعمر ؟ وهنا يفحمه يحيى بن يعمر مرةً أخرى بأنه يلحن ، حتى في القرآن الكريم ، وذلك حين رفع المنصوب في كلمة "أَحَبَّ " الواردة في الآية 24 من سورة التوبة ؛ فتغير وجه الرجل وحدثته نفسه أن يهم بصاحبه ، ولكن انهياره النفسي أورثه ترددًا لا عهد له به . وهكذا فإن الحق حين يصدع به صاحبه فإنه يلجم كل ظالم مستبد .
وهنا يبرز أحد المطبلين للسلطان ، فيحاول إنقاذ الموقف بتغيير مجرى الحديث ، فأخذ يسأل الحجّاج عن مدينة واسط التي شيدها باذلاًَ جهده الجاهد في التعمير والتثمير ، وكان الحجاج قد ارتاح إلى هذا الانتقال المنقِذ ، فأخذ يسهب فيما فعله وأنفقه على بناء هذه المدينة ، ثم رأى أن يصانع يحيى ؛ ليظهر أمام الناس بأن هزيمته لم تنل من نفسه ، فقال ليحيى : لم تذكر لنا رأيك في مدينة واسط يا يحيى ! فسكت الرجل ولم يردّ ، وتوجهت العيون إليه ، فزادت من حرج الحجّاج وتورطه ، فأعاد عليه السؤال مغيظًا ، فقال يحيى : أيها الأمير ، ماذا أقول عن واسط ، وقد شيَّدْتَها من غير مالك ، وسيسكنها أهلك ؟!
إن هذا المشهد يشير إلى عدة أمور يجب أن لا تفوتنا ، ومنها :
1 ـ كل حاكم ظالم له مجموعة من المنتفعين الذين يزينون أعماله للناس وينقذونه في المواقف الحرجة ، فيجب كشف ألاعيبهم ؛ لأن الحاكم الظالم يعتمد عليهم اعتمادًا كبيرًا .
2 ـ إن الحاكم الظالم لا يستسلم بسهولة أما مناوئيه ، ولكن على العلماء والمصلحين أن لا ييأسوا من الاستمرار في قول كلمة الحق في سبيل الإصلاح حتى يحققوا أهدافهم .
3 ـ إن السكوت في بعض المواقف أبلغ من الكلام ، كأن يطلب منه الحاكم الظالم أن يبدي رأيه في أمرٍ ما ، فيرفض الكلام ، كما فعل يحيى بن يعمر .
4 ـ إن سكوت العالم في مثل هذه المواقف ليس ناتجًا عن ضعف فيه أو في حجته ، وإنما ليغيظ هذا الحاكم الظالم أو يحرجه أمام شعبه .
نفَذَ صبر الحجّاج ، وتلهَّب الجمر في عينيه ، ثم صاح : ما حملك على هذا ؟ فقال يحيى في اعتداد : ما أخذ الله ـ تعالى ـ على العلماء في علمهم ألا يكتموا الناس حديثًا . فأطرق الحجّاج منخذلاً ، وساد صمتٌ حائر غمر المكان لحظات ، ورأى أن يقوم بعملٍ ينقذ خشيته ، فصاح بيحيى : لا تساكنِّي ببلدِ أنا فيه ، فاذهب منفيًا إلى خراسان . وعندما ذهب يحيى إلى خراسان وجد صيته الطائر يسبقه هناك ، ورأى الجميع يتحدثون بمجابهته للحجاج مكبِرين مقدِّرين ، ودنا خراساني ، فسأله في تعجُّب : ألم تخشَ سيف الحجّاج ؟! فردَّ في إيمان الواثق : لقد ملأتني خشية الله ، فلم تَدَعْ مكانًا لخشية إنسان .
مما سبق يمكن استنتاج الأمور التالية :
1 ـ يجب على العلماء عدم كتمان علمهم خوفًا من بطش السلطان .
2 ـ إن نفي العلماء والمصلحين ، التي يعتقد الحاكم الظالم أنه يخدمه ويخدم مصالحه ، قد يكون فيه الخير الكثير للعالم والمصلح ودعوته وانتشارها .
3 ـ من خشي الله حق الخشية ، لا يخشَ أحدًا غيره ، وأحق الناس بهذا الأمر هم العلماء والمفكرون والمصلحون .
7 ـ سيميائية بعض العبارات الواردة في النص :
سنناقش فيما يلي الدلالات والإشارات المحتملة لبعض العبارات الواردة في النص كنموذج ، ويمكن لمن أراد الاستزادة أن يبحث في سيميائية عبارات أخرى في ضوء الفهم العام والتفصيلي للنص :
1 ـ وقد شاء له القدر أن يُبتلَى بالحجّاج ، أو يُبتَلَى الحجّاج به : فيه إشارة على أن طريق الإصلاح ليست مفروشة بالورود والرياحين ، بل هي طريق صعبة وشاقة ، وفيها من الابتلاءات ما يمحِّص العلماء والمفكرين والمصلحين ؛ ليميز الخبيث من الطيب ، والصادق من الكاذب .
2 ـ فأجاب في المسجد الجامع : "إن الحسن والحسين من ذرية الرسول " : في ذلك إشارة إلى أن على العلماء والمصلحين أن ينشروا ما ينادون به ليصل إلى أكبر عدد ممكن من أفراد الشعب ، ولا يقتصروا على بعض الناس الذين لا يحتمل أن يبلغوا الحاكم الظالم ؛ لأن العالم أو المصلح يجب أن لا يخشى في قول الحق لومة لائم .
3 ـ ثم هو ـ أي يحيى ـ يناصر في اعتدال ، فلا يوازن بين الصحابة لينصر فريقًا على فريق : في ذلك إشارة إلى أن العالِم أو المصلح يجب أن يكون هدفه الإصلاح ونصرة الحق ابتغاء مرضاة الله ، وأن لا يكون هدفه نصرة فريق أو جماعة أو فئة .
4 ـ الحسين والحسن من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنْ غَضِبَ الحجّاج : في ذلك إشارة إلى أن العالِم أو المصلح يجب أن لا يحسب حسابًا لغضب السلطان أو الحاكم عندما يصدع بدعوته أو بقول الحق وبيانه للناس .
5 ـ فيتنمر الحجاج متحفزًا : دليل على شدة غضبه لدرجة أنه كاد يفتك بيحيى كالنمر الذي يتحفز للانقضاض على فريسته ، وكذلك كل حاكم ظالم لا يتورع عن محاولة البطش بمخالفيه .
6 ـ فيتطلع يحيى إلى الحاضرين ، ثم يصيح بصوت مجلجل ، وإيمانٍ وثّاب : فيه إشارة إلى أن هدف المصلح يهتم بأن تبلغ رسالته إلى الناس بالدرجة الأولى قبل أن تصل إلى الحاكم الظالم .
7 ـ وبدت الفرحة والشماتة في عيون الجالسين : دليل على العلاقة السيئة بين الحاكم الظالم وأفراد شعبه ، وهذا لن يكون في صالحه بحالٍ من الأحوال .
تحليل سيميائي مقترح لنص
بردة كعب بن زهير
للصف العاشر الأساسي في فلسطين / الجزء الثاني
مقدمة :
عندما بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخذ يدعو إلى الإسلام ، انطلق كعب بن زهير بن أبي سلمى ، وأخوه بُجَير ، يستطلعان أمر هذا الدين الجديد ، حتى بلغا " أبرُقَ العزّاف " ، وهو ماء في الطريق إلى المدينة ، فقال كعبٌ لبُجَير : القَ الرجل ، فأنا مقيم ٌ لك ها هنا ، وانظر ما يقول لك ، فقدمَ بجير على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسمع منه وأسلم . فبلغ ذلك كعبًا ، وكان نَدِمَ على رغبته في الإسلام ، فهجا الرسولَ - عليه السلام - ونال من أعراض المسلمين ، فلما بلغ ذلك الرسولَ - عليه السلام – أهدر دمه . فكتب بجيرٌ إليه يخبره الخبر . وعندما فتح المسلمون مكة ، كتب بجير إلى أخيه يأمره أن يأتي إلى الرسول – عليه السلام – ويبايعه على الإسلام ، فأقبل على الرسول بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رَحُبَت ، وكان ملثمًا بعمامته ، فقال : يا رسولَ الله ، هذا رجلٌ يبايعك على الإسلام ، فبسط – عليه السلام – يده ، فحسر كعبٌ عن وجهه ، وقال : هذا مكان العائذ بك يا رسولَ الله ، اأنا كعب بن زهير ، فَتَجَهَّمَتْهُ الأنصار ، وأغلظت له ؛ لِما كان منه ، وأرادت الفتك به ، وأَحَبَّ المهاجرون أن يسلم ، ويُؤَمِّنَهُ الرسولُ – عليه السلام – فأمَّنَهُ ، فأنشد هذه القصيدة ، فكساه الرسولُ بُردةً ، فسُمِّيَت هذه القصيدة ( البُردة ) .
وهذه القصيدة من شعر المخضرمين ، وهم الشعراء الذين عاشوا في الجاهلية والإسلام ، وقد افتتحها الشاعر بالغزَل ، جريًا على عادة شعراء الجاهلية ، ثم تحدَّث عن الناقة التي حمَلَتهُ إلى المحبوبة ، ثم جاء على الغرض الرئيس الذي قال من أجله قصيدته ، فاعتذر إلى الرسول الكريم ، واستعطفه ، بعد أن أظهر خوفه وجزعه ، ومدح الرسول – عليه السلام - ، ثم مدح المهاجرين الذين رغبوا في إسلامه .
وكعب بن زهير ، شاعر مخضرم ، شهد الجاهلية والإسلام ، وهو ابن الشاعر الجاهلي الحكيم زهير بن أبي سلمى ، توفي سنة ستٍّ وخمسين للهجرة .
1 ـ سيميائية العنوان :
يتحدث العنوان عن بُردة ، وهي الثوب المخطط ، وهذه البردة كانت أصلاً للرسول – صلى الله عليه وسلم – ولكنه كساها كعب بن زهير ؛ فسميت : " بردة كعب بن زهير " . ولكن لماذا اختيرت هذه البردة لتكون عنوانًا للنص ؟! الواقع أن هذه البردة كان لها شأن عظيم في حياة كعب ؛ لأنها حولت حياته من إنسان مهدور الدم ، إلى إنسان معزز مكرَّم ، قد بلغ من رضا الرسول – صلى الله عليه وسلم – عنه أن كساه بردته . فهذه البردة تحمل معاني الرضا والأمن والأمان والسلامة والإسلام ، بعد الخوف والشدة وإهدار الدم وضيق الأرض بما رحُبَت بسبب ما قام به كعب من هجاء للرسول - صلى الله عليه وسلم – ونَيله من أعراض المسلمين .
2 ـ سيميائية الأسماء :
استهل الشاعر قصيدته بذِكر " سعاد " ، وأغلب الظن أن " سعاد " ليست شخصية حقيقية ؛ فلقد سمَّى الشاعر الجاهلي له محبوبةً رمزًا لغويًا ، واسمًا فنيًا ، وعنوانًا موضوعيًا ( عبد الجليل ، 1982 ، 51 ) . ومن الملاحظ أن اسم " سعاد " لم يستعمله الشعراء الجاهليون إلا في المدح . فالشاعر كعب بن زهير استعمل هذا الاسم في مدح الرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذه القصيدة . واستعمله ربيعة بن مقروم حين مدح مسعود بن سالم بن أبي سلمى بن ربيعة في قصيدته التي مطلعها :
بانت سعادُ فأمسى القلبُ معمودا وأخلَفَتْكَ ابنةُ الحُرِّ المواعيدا
واستعمله الأعشى حين مدح هوذة بن علي الحنفي في قصيدته التي مطلعها :
بانت سعادُ وأمسى حبلُها انقطعا واحتلَّت الغَمرَ فالجُدَّينِ فالفَرَعا
واستعمله الأعشى أيضًا حين مدح إياس بن قبيصة الطائي في قصيدته التي مطلعها :
بانت سعادُ وأمسى حبلُها رابا وأحدَثَ النأيُ لي شوقًا وأوصابا
حتى أن إبا نواس ، الشاعر العباسي، قد استعمله عندما مدح العباس بن عبيد الله في قصيدته التي مطلعها:
حلَّت سعادُ وأهلُها سَرِفا قومًا عدًى ، ومحلةً قذفا
فليس عبثًا أن يقف كعب بن زهير ليختار سعاد ، مستهلاً بها أبياته ، مصرحًا باسمها ، واصفًا ما وصف ـ وهو الحريص على إبعاد أية مظنة من مظان الاتهام ـ مادحًا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ، معتذرًا ، راجيًا الصفح والعفو ، خائفًا من الفتك به ، مختبئًا وراء كلماته ، ويصادف شعره من رسول الله رضًا ليطلب إليه أن يكشف له عن وجهه ، وما سعاد في هذا الصدد سوى رمز يهدف إلى ما يريده الرجل ، ويكشف عما يأمله المذنب ( عبد الجليل ، 1982 ، 26 ) . وسعاد هي التي لا يشقى صاحبها ، ولا يخيب طالبها بالأمل الباسم والحياة الواعدة ( عبد الجليل ، 1982 ، 163 ) .
ولكن لماذا يُستخدم هذا الاسم بالذات في القصائد التي غرضها الأساسي المديح ؟! إن من يمدح إنسانًا إنما يريد من ذلك أن ينال شيئًا من الممدوح ، سواءً أكان ذلك مالاً أو جائزةً أو رضًا أو عفوًا عن ذنب اقترفه ، فإذا حقق له الممدوح ما يريد فإنه سيكون في سعادةٍ غامرة .
فكأن كعب بن زهير يقول : أسعِدني يا رسول الله بالعفو عني ؛ فأنت الكريم القوي الشجاع ، الذي يعفو عند المقدرة ، وقد أعطاك الله القرآن الكريم ، وحولك المسلمون المهاجرون ذوو الصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة . . . إلخ .
3 ـ سيميائية البناء الداخلي للشخصيات :
وردت في القصيدة عدة شخصيات هي على الترتيب : سعاد ، الناقة ، الوشاة ، الشاعر نفسه ، أصدقاء الشاعر ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المسلمون المهاجرون .
أما سعاد فإنها تتصف بالصفات التالية : تخلف الوعد ، لا تقبل النصيحة ، تتغير كثيرًا في تعاملها، تنقض العهود . ولكن ما علاقة هذه الصفات بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب العفو منه؟ أغلب الظن أنه يشير بهذه الصفات إلى السعادة التي يبحث عنها ؛ فقد تخيلها فتاةً يحبها اسمها سعاد، ولكنها فارقته وأخلفت وعده ، ولم تدم على حال ، وهو يتمنى أن تعود إليه ، ولا يكون ذلك إلا بعفو الرسول – صلى الله عليه وسلم – عنه . إذن فالشاعر يرمي من وراء ذكر محبوبته المفترَضة التي فارقته ، أن يستعطف النبي – صلى الله عليه وسلم – لكي يعفو عنه ، فيجعله سعيدًا .
أما الناقة فلم ترِد أوصاف معنوية لها ، حتى في النص الكامل للقصيدة .
وأما الوشاة فلم نعرف عنهم سوى أنهم قالوا له : إنك مقتولٌ لا محالة . ولعله كان يقصد بالوشاة هنا من لم يُسلموا بعد ، فهم يريدون أن يثنوه عن الذهاب للرسول ليعلن إسلامه ، وذلك بتخويفه من فتك الرسول به . وربما كان يقصد بالوشاة الأنصار الذين تجهَّموه عندما كشف عن وجهه ، وأغلظوا له ، وأرادوا الفتك به . فكأنه يقول للرسول – صلى الله عليه وسلم – : اعف ُ عني يا رسول الله ، ولا تقتلني، ولا تطع هؤلاء الذين يريدون قتلي والفتك بي .
وأما الشاعر نفسه فإنه يتصف بما يلي : لا يسمع لكلام الوشاة ، يؤمن بالقضاء والقدر ، يؤمن بأن مصير كل إنسان هو الموت ، يأمل بالعفو من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، يؤمن بالقرآن الكريم، جاء تائبًا معتذرًا معلنًا إسلامه .
وأما أصدقاء الشاعر فقد تخلوا عنه ، وكل منهم ادَّعى أنه مشغول ، ولا يقدر على مساعدته . وربما قصد الشاعر من وراء ذلك أن يبين للرسول – صلى الله عليه وسلم – أن الأعداء قد حاولوا ثنيَهُ عن إعلان إسلامه ، وأن الأصدقاء قد تخلوا عنه في محنته ، فلم يبق له أمل ورجاء إلا في رسول الله أن يعفو عنه ويتجاوز عن زلته .
وأما الرسول – صلى الله عليه وسلم – فقد اختار الشاعر من صفاته : أنه شجاع ، يهابه من يقف أمامه ، وتخافه سباع الجو وسباع البر ، وكلامه فاصل حاسم لا يُرَدُّ ، وهو نورٌ يهتدي به الناس . وذِكْرُ الشاعر لهذه الصفات بالذات يحمل في طياته حثًا للرسول – صلى الله عليه وسلم – على العفو عنه ؛ لأنه إن عفا عنه فإن هذا العفو ليس ناجمًا عن ضعف وخَوَر ، إنما هو العفو عند المقدرة ، ثم إن الرسول لم يأتِ للانتقام وسفك الدماء ، إنما جاء نورًا وهاديًا للعالمين ، فهذا الرسول بهذه الصفات حريٌّ به أن يعفو عمَّن جاءه تائبًا نادمًا على ما بَدَرَ منه .
وأما المهاجرون من قريش فقد خصهم الشاعر بمدحه لأنهم أحَبّوا أن يُسلِم ، وحثوا الرسول على أن يؤمِّنَه ويعفو عنه . فمن صفاتهم التي ذكرها الشاعر : لم تكن هجرتهم عن ضعف ، أو قلة سلاح ، أو خوف من الأعداء ، ولا حُمقًا وانعزالاً عن الناس . وهم أنوفهم مرفوعة إلى أعلى عزةً وفخارًا ، وهم أبطال في المعارك ، ولكنهم لا يفرحون كثيرًا إذا انتصروا ، ولا يجزعون إذا هُزِموا ، وهم شجعان لا يفرون من المعركة .
4 ـ سيمياء البناء الخارجي للشخصيات :
وردت في القصيدة أوصاف خارجية لكل من : سعاد ، والناقة التي حملتها إلى البلاد التي ذهبت إليها بعد رحيلها من بلد الشاعر .
أما سعاد فمن ملامحها الخارجية التي وردت في القصيدة : أنها في صوتها غُنَّة ، تنظر خافضةً عينيها ، وهي مكحولة العينين ، ضامرة البطن ، رقيقة الخاصرة ، كبيرة العجز ، متوسطة الطول ، أسنانها برّاقة ناصعة البياض . وما دام الشاعر يقصد بسعاد سعادته المفقودة التي يتمنى رجوعها ، فإنه يشير هنا كم هي جميلة تلك السعادة التي ستحل عليه إن عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما الناقة التي حملت محبوبته سعاد ، ففيها كل الصفات الجميلة . ومن هذه الصفات التي نستنبطها من النص الكامل للقصيدة : عتيق ( كريمة ) ، نجيبة ( قوية خفيفة ) ، مرسال ( سريعة ) ، عُذافرة ( صلبة عظيمة ) ، قوية على السير ، كثيرة العرق ، حادة البصر ، ضخمة العنق ، غلباء (غليظة العنق ) ، وجناء ( عظيمة الوجنتين ) ، عُلكوم ( شديدة ) ، مُذكَّرة ( عظيمة الخلقة تشبه الذُّكران من الأباعر ) ، واسعة الجنبين ، طويلة العنق ، جلدها في غاية النعومة والملاسة ، مداخلة النسَب في الكرم ، مهجَّنة ( كريمة الأبوين ) ، قَوداء ( طويلة الظهر والعنق ) ، شمليل ( خفيفة سريعة ) ، عَيرانة ( تشبه الحمار الوحشي في سرعته ونشاطه وصلابته ) ، ممتلئة باللحم من كل الجوانب ، ذيلها غليظ طويل كثير الشَّعَر ، قَنواء ( محدودبة الأنف ) ، يظهر للعارف بالإبل الكرام كرمٌ ظاهر في أذنيها لحسنهما وطولهما، في خديها سهولة وليونة ، غاية في الإسراع في سيرها ، أعصاب قوائمها شديدة كالرماح السُّمر .
هذه الصفات كلها صفات مدح ، فلماذا أسهب الشاعر في مدح هذه الناقة بالرغم من أنها ساعدت في بُعد محبوبته سعاد
5 ـ سيميائية الزمان والمكان :
حدثت أحداث هذا النص بعد فتح مكة ، حيث كان المسلمون في أوج قوتهم وعزتهم ، فليس أمام كعب بن زهير إلا أن يندم عما بدر منه بحق الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمسلمين ، ويطلب العفو من رسول الله ، كما ليس أمامه إلا أن يعترف بأن الإسلام هو الدين الحق ، وأنه لا أحد يستطيع أن يقف في وجهه .
أما الزمن الذي حدثت فيه الأحداث المفترضة المذكورة في القصيدة ، فإنه يشمل :
1 ـ فترة ما قبل رحيل محبوبته سعاد ، حيث كان يعيش في أمن واستقرار ، وهي تشير إلى الفترة التي عاشها الشاعر قبل أن يهدر الرسول - صلى الله عليه وسلم – دمه ، حيث كان يعيش في أمن واطمئنان .
2 ـ فترة رحيل محبوبته سعاد ، حيث المعاناة والآلام النفسية التي قاساها ، وهي تشير إلى الفترة التي عاشها منذ أن أُهدِرَ دمه حتى قدومه على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وما كان فيها من معاناة.
3 ـ الفترة التي ألقى فيها قصيدته على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفيها يتحدث الشاعر بصريح العبارة - دون إشارة أو تلميح – عن أمله في أن يعفو رسول الله عنه ؛ حتى تعود إليه سعادته .
أما المكان فقد ألقى الشاعر قصيدته بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأغلب الظن أن ذلك في المسجد النبوي ، الذي هو في المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية آنذاك ، حيث القوة والعزة والمنعة . وبذلك نجد أن الزمان والمكان يتعاضدان في إبراز الظرف الذي حدثت فيه الدواعي التي دعت إلى قول هذه القصيدة ، وما كان يطمح إليه الشاعر من إلقائها .
وأما الأحداث التي ذكرها الشاعر في قصيدته ، فقد حدثت في عدة أماكن ، وكل مكان منها له دلالاته وإيحاءاته . فالمكان الأول هو مكان إقامة الشاعر ، فهذا المكان يشير إلى ما كان عليه الشاعر من أمن واطمئنان وسعادة ، حيث كانت محبوبته سعاد ( التي تشير إلى السعادة ) قريبة منه ، يسعد بلقائها والقرب منها . أما المكان الثاني فهو الطريق الذي سلكته سعاد عندما غادرت الديار لتفارقه ، فهذا المكان يشير إلا المرحلة الانتقالية التي عاشها منذ إهدار دمه حتى قدومه على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ، حيث عانى ماعانى من الشدة والخوف والقلق وعدم الاستقرار . أما المكان الثالث فهو مكان حقيقي وليس مفترضًا ، وهو المكان الذي يقف فيه ليُلقي قصيدته ، وهذا المكان – كما سبق أن قلنا – هو المسجد النبوي في المدينة المنورة .
6 ـ سيميائية الأحداث الواردة في النص :
تبدأ الأحداث بفراق محبوبته سعاد ، ورحيلها من دياره إلى ديار أخرى بعيدة عنه . والشاعر يشير بذلك إلى أنه كان يعيش سعيدًا آمنًا مطمئنًا ، ولكن هذه السعادة لم تدم ، بل فارقته عندما توعَّده رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأهدر دمه .
ثم يبدأ الشاعر بوصف محبوبته سعاد بأوصاف حسية غاية في الجمال ، ولكن صفاتها المعنوية ليست كذلك ؛ فهي تخلف الوعد ، ولا تقبل النصيحة ، وتتغير كثيرًا في معاملتها ، ولا تفي بالوعود . وكأن الشاعر يشير إلى أن سعادته كانت في ظاهرها جميلةً جذابة ، ولكنها في حقيقتها وجوهرها عكس ذلك ؛ لأنها لم تكن سعادة قائمة على الإسلام والإيمان بالرسول – صلى الله عليه وسلم - .
ثم يتحدث الشاعر عن وصول سعاد إلى بلاد بعيدة لا يمكن الوصول إليها إلا على ظهور النوق الكريمة النشيطة . وكأن الشاعر يريد أن يقول : إن عودة السعادة إليه ليس بالأمر الهين أو اليسير ، ولا يقدر عليه إلا الكريم الشجاع ( يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . وفي ذلك ترقيق لقلب الرسول لكي يعفو عنه .
ثم يذكر الشاعر أن الوشاة خوفوه وقالوا له : إنك مقتول لا محالة ، ولكنه لم يلتفت إلى أقوالهم ؛ لأنه يؤمن بالقضاء والقدر ، وأن كل ما قدَّر الرحمن مفعول . ولعل الشاعر يقصد بالوشاة أولئك الذين لم يؤمنوا بعد ، وحاولوا أن يثنوه عن الذهاب إلى رسول الله والاعتذار إليه . وربما يقصد بالوشاة الأنصار من أهل المدينة الذين تجهموه وأغلظوا له وأرادوا الفتك به عندما اكتشفوا أمره كما يذكر الشاعر